يقول محمد احمد وهو مزارع بشمال السودان  أن انتاج مزرعته من القمح قد قل كثيرا في السنين الأخيرة حيث صار انتاج الفدان لا يتجاوز 5 جوالات وهي إنتاجية لا تغطي تكاليف الزراعة مما دفعه للبحث عن طرق أخرى لكسب العيش. يقول أحمد ان كثير من المزارعين الذين يعملون معه غادروا العمل واتجهوا إلى مجال التعدين أملا في مكاسب أكبر ويعتقد أحمد أنه سوف يتوجه هو الآخر إلى هذا المجال تاركاً الزراعة وربما يكرس مزرعته لمحصول آخر.

محصول استراتيجي

أكدت دراسة أمريكية أجرتها جامعة كانساس أن الإنتاج العالمي من محصول القمح سيقل تدريجيا في العقود القادمة تحت وطأة التغير المناخي، وقالت الدراسة التي نشرت في مجلة الطبيعة لتغير المناخ في العام 2015 أن زيادة درجة حرارة الأرض بمعدل درجة واحدة في وقت الحصاد عام 2012-2013، أدى إلى خسارة 42 مليون طن من الإنتاج الكلي للقمح عالميًا، بمعدل بلغ 6%. (للإطلاع على الدراسة اضغط هنا)
والسودان هذه الدولة الواقعة ضمن الحزام الأفريقي الأكثر تأثرا بالتغير المناخي يبدو أنه قد عانى بالفعل من تأثير ارتفاع درجة الحرارة على إنتاجية القمح لديه فبعد أن كان مكتفيا ذاتيا بنسبة 80٪ من القمح حتى منتصف الثمانينات وصولا لاكتفائه بنسبة 100٪ في العام 1992، بدأت إنتاجية القمح فيه بالتناقص تدريجيا حتى وصوله الآن إلى أن تكون انتاجية القمح لديه تغطي ما لا يتجاوز 17٪ من احتياجاته السنوية. ما تبقى من حوجة السودان التي تبلغ في المجمل 2 مليون طن يتوجب استيراده بفاتورة تناهز مليار دولار.
هناك حاليا فجوة كبيرة في هذا المحصول الإستراتيجي والذي بات يعتبر الغذاء الرئيسي لمعظم أهل السودان ويصنف من أهم أسباب الأمن الغذائي وله انعكاساته السياسية والاجتماعية الواضحة.
لمعرفة أثر التغير المناخي على زراعة القمح في السودان وما هي تدابير التكيف مع هذه التأثيرات والسبل التي يمكن أن تساهم في زيادة الإنتاجية من هذا المحصول المهم تمت محاورة العدد من الخبراء في هذا التحقيق.

حقل قمح

التغير المناخي وموسم زراعة القمح

يوضح بروفيسور عماد الدين بابكر الخبير بهيئة البحوث الزراعية أن التغير المناخي لديه تأثير كبير على إنتاجية القمح في السودان حيث يعتبر السودان من المناطق الهامشية لزراعة القمح نسبة لارتفاع درجة حرارته حيث يعتبر القمح من محاصيل المناطق الباردة، لذلك كان القمح يزرع في المناطق البادرة من البلاد كالمناطق الشمالية والتي تعتبر الموطن التاريخي لزارعة القمح. يواصل بابكر: في الستينيات بدأ إدخال زراعة القمح في مناطق وسط السودان كمشروع الجزيرة وخشم القربة لغرض زيادة الإنتاجية وهي مناطق أكثر حرارة من شمال السودان لذلك طالما كان للتغير المناخي تأثيرا على زراعة القمح في السودان لأنه في الثلاثين سنة الاخيرة وتبعا لهذا التغير المناخي فقد قلت مدة فصل الشتاء وزادت درجات الحرارة خلاله وهو الفصل الذي يعتبر موسما لزراعة القمح.
يشرح بابكر في الماضي كان فصل الشتاء يبدأ من منتصف أكتوبر وحتي مارس وكان القمح يزرع خلال هذه المدة وبعد التغيرات المناخية المضطردة في السنين اللاحقة صار فصل الشتاء اقصر فأصبحت مواعيد زراعة القمح تبدأ من منتصف نوفمبر مع ارتفاع درجات الحرارة العظمي في النهار حتي 35 درجة والدنيا في الليل حتى 25 درجة ويؤكد بابكر أن هذا التغير في مدة ودرجة حرارة فصل الشتاء قد أثرت تأثيرا كبيرا على إنتاجية القمح في السودان.
وقد أوضحت دراسة أجرتها هيئة البحوث الزراعية في السودان أن بداية موسم الزراعة من منتصف نوفمبر بدلا عن منتصف أكتوبر قد أدت إلى نقصان إنتاجية القمح في ولاية نهر النيل بنسبة 70٪ مما يدلل على عظم تأثير التغير المناخي على محصول القمح.

رسم بياني: إنتاجية القمح
صورة توضح تأثير تاريخ الزراعة على إنتاجية القمح في منطقة نهر النيل في السودان. مصدر الصورة: د.عزت سيد احمد طاهر / هيئة البحوث الزراعية

يختتم بروفيسور بابكر حديثه قائلا أن تداعيات التغير المناخي على زراعة القمح جعل من البحث عن أصناف من القمح تتحمل الاجهاد الحراري إضافة إلى تغيير إدارة العملية الفلاحية ضرورة ملحة للتكيف مع هذه التأثيرات ولتقليل مخاطر التغير المناخي على زراعة القمح.

تطوير سلالات مقاومة لدرجات الحرارة

يقول مربي أصناف القمح بهيئة البحوث الزراعية د.عزت سيد احمد طاهر أن الهيئة خلال السنين الماضية قد نجحت في تطوير أكثر من 30 صنف وسلالة قمح مقاومة لظروف الاجهاد الحراري وذات إنتاجية عالية في اصعب المناطق ذات درجة الحرارة العالية كالجزيرة ووسط السودان. وحسب طاهر فإنه بفضل هذه السلالات المطورة فإن 70٪ من إنتاج القمح في السودان يأتي من مناطق كانت تصنف في السابق بأنها غير ملائمة لزراعة القمح مثل مشروع الجزيرة الذي يمثل وحده أكثر من 50٪ من انتاج القمح في السودان رغم أنه في منطقة تعتبر من الأعلى بالنسبة لظروف الاجهاد الحراري.
يوضح طاهر الاوضاع في السودان أكثر فيقول: المشكلة في السودان هي أن انتاج القمح في زيادة ولكن معدلات الاستهلاك في زيادة أكبر لذلك فلا زالت هناك فجوة بين الاستهلاك والإنتاج لابد من معالجتها. في ذات السياق يقول طاهر أن هيئة البحوث الزراعية تختبر آلاف السلالات من القمح بالتعاون مع مراكز بحثية عالمية لأهمية إنتاج سلالات جديدة مقاومة لارتفاع درجة الحرارة. و نتيجة لتميز بيئة السودان والتعاون الوثيق بينها و بين مراكز البحوث العالمية وبصفة خاصة سيميت و ايكاردا، تم اختيار محطة بحوث الجزيرة كمنصة للتوصيف الدقيق وبحوث الاجهاد الحراري يهدف بها الاسهام في توفير المعلومات التي قد تخدم العالم تحسبا لظروف التغير المناخي التي من المتوقع أن تؤثر على مناطق الانتاج في المناطق الباردة والمعتدلة. هذا الاختيار تم بناء على مجهودات علماء برنامج بحوث القمح في السودان بتوفير المعلومات الدقيقة و التي اسهمت في تطوير بحوث الاجهاد الحراري في تلك المراكز.

تحسين الإنتاجية بتوفير التقانة

من جانبها تقول أماني إدريس وهي المنسق القومي لبرنامج بحوث القمح بالسودان أن الفجوة ما بين الإنتاج والاستهلاك فيما يخص القمح أوجبت عليهم التوجه لزيادة الانتاج عن طريق الزيادة الرأسية وهي زيادة الإنتاج في الأراضي المتوفرة لزراعة القمح و عن طريق الزيادة الأفقية وهي التوسع بإضافة أراضي جديدة لزراعة القمح في السودان.
فيما يخص الزيادة الرأسية فهي تتم عبر عدة محاور أولها زيادة الإنتاجية عبر التحسين الوراثي لسلالات القمح المقاوة للحرارة بالإضافة الي تحسين الإنتاجية عن طريق تطوير الإدارة المتكاملة لمحصول القمح فحسب إدريس فقد تم استنباط ما لا يقل عن 70 تقانة مختلفة توفر عدد من الخيارات للمستفيدين منذ تحضير الأرض وميعاد الزراعة ومعدل التقاوى و الجرع التسميدية المختلفة لتغذية النبات ، ذلك بالإضافة لعدد من التقانات التي تسهم في تقليل الفاقد من المحصول عن طريق مكافحة الآفات المختلفة و تقليل فاقد الحصاد.
وتضيف إدريس أنه أيضا من بين الطرق التي تساهم في زيادة الإنتاجية نقل التقانة والإرشاد الزراعي عبر الحقول الايضاحية والندوات والتدريب للمزارعين عبر أيام الحقل والهدف من هذه الأنشطة هو ضمان تعليم المزارعين للتقانات وتطبيقها بصورة صحيحة. وبصفة عامة يمكن تقدير عدد مدارس المزراعين بحوالي 40 مدرسة مزارعين و أيام الحقل بحوالي 115 كما تم تنفيذ ما لا يقل عن 50 دورة تدريبية داخلية أو اقليمية لمختلف شركاء الانتاج في خلال الأربع سنوات السابقة. و من خلال هذه الأنشطة يمكن تقدير عدد المزارعين المتأثرين بأنشطة تلك المشاريع بحوالي عشرون ألف مزارع.

تحديات

فيما يخص الزيادة الافقية للانتاج بزيادة الأراضي المزروعة من القمح تقول إدريس أن هذه المنهجية لا يمكن التمادي فيها في مناطق الانتاج التقليدية في المشاريع المروية لأسباب فنية تخص نظم الري والطاقة التشغيلية لشبكة الري. وتضيف لكن هذا التوسع الافقي يمكن تحقيقه في أراضي التروس العليا في ولايتي الشمالية ونهر النيل. ولكن لابد من استجلاب تقانات ري أفضل مثل الري المحوري.
من جانبه يقول بروفيسور عماد الدين بابكر أن الري المحوري قد نجح في تحقيق إنتاجيات عالية في بعض مشاريع القطاع الخاص لأن طريقة الري بالرش تلطف البيئة المحيطة بنبات القمح مما يسهم في تقليل درجات الحرارة في محيط المزرعة ويزيد من المحصول.
من جانبه يرى د.عزت سيد احمد طاهر أن تطوير البنى التحتية اساسي ومهم للتوسع الافقي ويشمل ذلك إدخال طرق الري الحديثة وتدريب كل شركاء الإنتاج من مزارعين وعمال وسائقي الآليات الزراعية كما يشير طاهر أن أحد التحديات المهمة في سبيل زيادة انتاجية القمح هي تشجيع المزارعين على زراعته بتحسين شروط التمويل الحكومي وجعل تكلفة مدخلات الزراعة من وقود وسماد وغيرها في المتناول حتي تصبح زراعة القمح مشروعا مربحا للمزراع لأن عزوف المزارعين عن زراعة القمح سوف يشكل أكبر مهدد لانتاجيته ويجعل من سد الفجوة ما بين الإنتاج والاستهلاك صعبا ويؤدي إلى زيادة فاتورة الاستيراد